فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{إِنّا بلوْناهُمْ كما بلوْنا أصْحاب الْجنّةِ إِذْ أقْسمُوا ليصْرِمُنّها مُصْبِحِين (17)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنّا بلوْناهُمْ} يريد أهل مكة.
والابتلاء الاختبار.
والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليْبطروا؛ فلما بطِرُوا وعادوْا محمدا صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحْط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم.
وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء ويقال بفرسخين وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها؛ فلما مات صارت إلى ولده، فمنعوا الناس خيرها وبخِلُوا بحقّ الله فيها؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حلّ بها.
قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان؛ ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم.
وقيل: هي جنة بضوْران، وضوران على فرسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير وكانوا بخلاء فكانوا يجُدّون التمر ليلا من أجل المساكين، وكانوا أرادوا حصاد زرعها وقالوا: لا يدخلها اليوم عليكم مسكين، فغدوْا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها فأصبحت كالصّرِيم؛ أي كالليل.
ويقال أيضا للنهار صرِيم.
فإن كان أراد الليل فِلاسوداد موضعها.
وكأنهم وجدوا موْضِعها حمْأة.
وإن كان أراد بالصّريم النهار فلذهاب الشجر والزرع ونقاء الأرض منه.
وكان الطّائف الذي طاف عليها جبريل عليه السلام فاقتلعها.
فيقال: إنه طاف بها حوْل البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم؛ ولذلك سُمِّيت الطائف.
وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والأعناب والماء غيرها.
وقال البكري في المُعْجم: سُميِّت الطائف لأن رجلا من الصّدِف يقال له الدّمُون، بنى حائطا وقال: قد بنيْتُ لكم طائفا حول بلدكم؛ فسُمِّيت الطائف.
والله أعلم.
الثانية: قال بعض العلماء: على من حصد زرْعا أوجدّ ثمرة أن يواسي منها من حضره؛ وذلك معنى قوله: {وآتُواْ حقّهُ يوْم حصادِهِ} [الأنعام: 141] وأنه غير الزكاة على ما تقدّم في (الأنعام) بيانه.
وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصّادون.
وكان بعض العباد يتحرّون أقواتهم من هذا.
وروي أنه نُهي عن الحصاد بالليل.
فقيل: إنه لِما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق.
وتأوّل من قال هذا الآية التي في سورة {نا والْقلمِ}.
وقيل: إنما نهى عن ذلك خشية الحيّات وهوامّ الأرض.
قلت: الأوّل أصح؛ والثاني حسن.
وإنما قلنا الأول أصح لأن العقوبة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى.
روى أسباط عن السُّدِّي قال: كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا، وكان إذا بلغ ثمارهُ أتاه المساكين فلم يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزوّدوا؛ فلما مات قال بنُوه بعضهم لبعض: علام نُعطي أموالنا هؤلاء المساكين! تعالوْا فلْنُدْلج فنصْر منّها قبل أن يعلم المساكين؛ ولم يستثنوا؛ فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفْتا: لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين؛ فذلك قوله تعالى: {إِذْ أقْسمُواْ} يعني حلفوا فيما بينهم {ليصْرِمُنّها مُصْبِحِين} يعني لنجدنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين؛ ولا يستثنون؛ يعني لم يقولوا إن شاء الله.
وقال ابن عباس: كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعدّاه المِنْجل فلم يجذّه من الكرْم، فإذا طُرح على البساط فكل شيء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين، فإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعدّاه المِنْجل فهو للمساكين، فإذا درسُوا كان لهم كل شيء انتثر؛ فكان أبوهم يتصدّق منها على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأراملُ والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم.
فقالوا: قلّ المالُ وكثر العيال؛ فتحالفوا بينهم ليغدُون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصْرِمنها ولا تعرف المساكين.
وهو قوله: {إِذْ أقْسمُواْ} أي حلفوا {ليصْرِمُنّها} ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسُدْفة من الليل لئلا ينتبه المساكين لهم.
والصرم القطع.
يقال: صرم العِذق عن النخلة.
وأصرم النخلُ أي حان وقت صِرامه.
مثل أرْكب المهرُ وأحصد الزرعُ، أي حان ركوبه وحصاده.
{ولا يسْتثْنُون} أي ولم يقولوا إن شاء الله.
{فتنادوْاْ مُصْبِحِين} ينادي بعضهم بعضا.
{أنِ اغدوا على حرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صارِمِين} عازمين على الصّرام والجداد.
قال قتادة: حاصدين زرعكم.
وقال الكلبي: ما كان في جنتهم من زرع ولا نخيل.
وقال مجاهد: كان حرثهم عِنبا ولم يقولوا إن شاء الله.
وقال أبو صالح: كان استثناؤهم قولهم سبحان الله ربّنا.
وقيل: معنى {ولا يسْتثْنُون} أي لا يستثنون حق المساكين؛ قاله عكرمة.
فجاءوها ليلا فرأوا الجنة مسودّة قد طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون.
قيل: الطائف جبريل عليه السلام؛ على ما تقدّم ذكره.
وقال ابن عباس: أمْرٌ من ربك.
وقال قتادة: عذاب من ربّك.
ابن جريج: عُنُق من نار خرج من وادي جهنم.
والطائف لا يكون إلا بالليل؛ قاله الفرّاء.
الثالثة: قلت: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ومن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عذابٍ ألِيمٍ} [الحج: 25] وفي الصحيح: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» وقد مضى مبيّنا في سورة (آل عمران) عند قوله تعالى: {ولمْ يُصِرُّواْ على ما فعلُواْ} [آل عمران: 135]
قوله تعالى: {فأصْبحتْ كالصريم} أي كالليل المظلم؛ عن ابن عباس والفرّاء وغيرهما.
قال الشاعر:
تطاول ليْلُك الجوْنُ الْبهِيمُ ** فما ينجاب عن صبح بهِيم

أي احترقت فصارت كالليل الأسود.
وعن ابن عباس أيضا: كالرّماد الأسود.
قال: الصريم الرماد الأسود بلغة خُزيمة.
الثورِيّ: كالزرع المحصود.
فالصريم بمعنى المصروم أي المقطوع ما فيه.
وقال الحسن: صُرِم عنها الخير أي قطع؛ فالصريم مفعول أيضا.
وقال المؤرّج: أي كالرملة انصرمت من معظم الرمل.
يقال: صريمة وصرائم؛ فالرّملة لا تنبت شيئا يُنتفع به.
وقال الأخفش: أي كالصبح انصرم من الليل.
وقال المبرد: أي كالنهار؛ فلا شيء فيها.
قال شمِر: الصّريم الليل والصّريم النهار؛ أي ينصرم هذا عن ذاك وذاك عن هذا.
وقيل: سُمي الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرف؛ ولهذا يكون فعيل بمعنى فاعل.
قال القُشيْرِيّ: وفي هذا نظر؛ لأن النهار يسمّى صِريما ولا يقطع عن تصرّف.
قوله تعالى: {فانطلقوا وهُمْ يتخافتُون} أي يتسارّون؛ أي يُخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد؛ قاله عطاء وقتادة.
وهو من خفت يخْفِت إذا سكن ولم يبيّن.
كما قال دُريد بن الصِّمّة:
وإنّي لم أهلك سُلالا ولم أمت ** خُفاتا وكُلاّ ظنّه بِي عُوّدِي

وقيل: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم.
وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصِرّام.
{وغدوْاْ على حرْدٍ قادِرِين} أي على قصْد وقدرة في أنفسهم ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم.
قال معناه ابن عباس وغيره.
والحرْد القصدُ.
حرد يحْرِد (بالكسر) حرْدا قصد.
تقول: حردْتُ حرْدك؛ أي قصدت قصدك.
ومنه قول الراجز:
أقبل سيْلٌ جاء من عند اللّهْ ** يحْرِدُ حرْد الجنة المُغِلّهْ

أنشده النحاس:
قد جاء سيل جاء من أمر الله ** يحرد حرد الجنة المغله

قال المبرد: المُغِلّة ذات الغّلّة.
وقال غيره: المغِلّة التي يجري الماء في غللها أي في أصولها.
ومنه تغلّلت بالغالية.
ومنه تغلّيت، أبدل من اللام ياء.
ومن قال تغلّفْت فمعناه عنده جعلتها غِلافا.
وقال قتادة ومجاهد: {على حْردٍ} أي على جِدّ.
الحسن: على حاجة وفاقة.
وقال أبو عبيدة والقُتيبِيّ: على حرْد على منع؛ من قولهم حاردتِ الإبلُ حِرادا أي قلّت ألبانها.
والحرُود من النُّوق القليلة الدّرّ.
وحاردتِ السّنةُ قلّ مطرها وخيرها.
وقال السدّي وسفيان: {على حرْدٍ} على غضب.
والحرد الغضب.
قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي: وهو مخفف؛ وأنشد شعرا:
إذا جياد الخيلِ جاءت ترْدِي ** مملوءة من غضبٍ وحردِ

وقال ابن السِّكْيت: وقد يحرّك؛ تقول منه: حرِد (بالكسر) حردا، فهو حارد وحرْدان.
ومنه قيل: أسدٌ حارِدٌ، ولُيُوثٌ حوارد.
وقيل: {على حرْدٍ} على انفراد.
يقال: حرد يحْرِد حُرُودا؛ أي تنحىّ عن قومه ونزل منفردا ولم يخالطهم.
وقال أبو زيد: رجل حِريد من قوم حرداء.
وقد حرد يحْرِد حُرودا؛ إذا ترك قومه وتحوّل عنهم.
وكوكب حرِيد؛ أي معتزل عن الكواكب.
قال الأصمعيّ: رجل حرِيد؛ أي فريد وحيد.
قال: والمُنْحرِد المنفرد في لغة هُذيل.
وأنشد لأبي ذؤيب:
كأنه كوكب في الجوّ مُنْحرِد

ورواه أبو عمرو بالجيم، وفسّره: منفرد.
قال: وهو سهيل.
وقال الأزهريّ: حرْد اسم قريتهم.
السُّديّ: اسم جنتهم؛ وفيه لغتان: حرْدٌ وحرد.
وقرأ العامة بالإسكان.
وقرأ أبو العالية وابن السّميْقع بالفتح؛ وهما لغتان.
ومعنى {قادِرِين} قد قدّروا أمرهم وبنوْا عليه؛ قاله الفرّاء.
وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم.
وقال الشعبيّ: {قادِرِين} يعني على المساكين.
وقيل: معناه من الوجود؛ أي منعوا وهم واجدون.
قوله تعالى: {فلمّا رأوْها قالوا إِنّا لضآلُّون} أي لما رأوها محترقة لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد، أنكروها وشكُّوا فيها.
وقال بعضهم لبعض: {إِنّا لضآلُّون} أي ضللنا الطريق إلى جنّتِنا؛ قاله قتادة.
وقيل: أي إنا لضالون عن الصواب في غدوّنا على نية منع المساكين؛ فلذلك عوقبنا.
{بلْ نحْنُ محْرُومُون} أي حُرِمنا جنتنا بما صنعنا.
روى أسباط عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والمعاصي إن العبد ليُذْنِبُ الذّنْب فيُحْرم به رزقا كان هُيِّئ له ثم تلا {فطاف عليْها طآئِفٌ مِّن رّبِّك}» الآيتين. اهـ.